الحداثة المؤجَّلة: سمات حداثية سابقة في أدب توفيق فيّاض

ملخص البحث

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة "الحداثة المؤجَّلة" في الأدب العربي من خلال نموذج أعمال الأديب الفلسطيني توفيق فيّاض (ولد 1939). وتحديدًا، رواية المشوهون (1963) ومسرحية بيت الجنون (1965). تنطلق الدراسة من إطار نظري يجمع بين نظرية "الحقل الأدبي" لبير بورديو، ونظرية "جمالية التلقي" لياوس وإيزر، ومفهوم "حجاب القلق" لعالم السبرك. تكشف الدراسة كيف حملت أعمال فيّاض سمات حداثية متقدمة سبقت عصرها؛ مثل كسر التابوهات، والتركيز على الذات الفردية، والتمرّد على المسلّمات، واستخدام تقنيات سردية ومسرحية مبتكرة: كاللاودرما ومزج الوعي والهذيان، القائم على التناص. واجهت هذه الأعمال رفضًا أو إقصاءً عند صدورها، بسبب تصادُمها مع أفق التوقعات السائد، والهيمنة الإيديولوجية للتيارات الواقعية التقليدية، قبل أن تتحقق بالاعتراف النقدي المتأخر. تخلص الدراسة إلى أن النصوص الحداثية قد تسبق زمانها، وتنتظر ظروفًا أدبية وثقافية أكثر نضجًا للاعتراف بقيمتها وتأثيرها.

1. النص الحداثي بين التهميش والاعتراف

تمثّل الحداثة الأدبية في السياق العربي تحوّلًا جذريًا في أساليب التعبير ورؤية العالم، إذ تتجاوز الأنماط التقليدية وتطرح بدائل إبداعية تعكس وعيًا متجددًا بالواقع المتغير. ولعل أبرز سمات هذه الحداثة تتجلى في النزعة العقلانية التي تجعل من العقل مرجعية عليا؛ التمرّد على القيم التقليدية والأنماط الجاهزة؛ مركزية الذات الإنسانية والغوص في العوالم الداخلية؛ الاغتراب والقلق الوجودي؛ تكسير الزمن الخطي؛ وتعدد الأصوات والروّاة. بمساحة أنماطه السائدة، التجريب والانفتاح على الجديد في أشكال التعبير. فضلًا عن تكريس قيم الحرية والإبداع، والحداثة الأدبية بوصفها منظومة فكرية وجمالية، لم تظهر دفعة واحدة بالضرورة؛ بل تشكّلت عبر تراكمات وإرهاصات سابقة تجلّت في نصوص متفرقة سبقت عصرها. هذه النصوص السابقة الرؤيا هي بمثابة بذور لبروز التحولات الحداثية التي سيشهدها الأدب لاحقًا. فغير من شكل النتاج الأدبي والتلقي. ويتجلى ذلك في أعمال الكتاب الذين تجاوزوا الأطر الأدبية التقليدية السائدة في عصرهم، مستشرفين عن وعي أو غير وعي، ملامح المرحلة الحداثية القادمة.

تثير دراسة النصوص الأدبية في سياقها التاريخي إشكالية جوهرية تتعلق بالتصنيف الزمني للظواهر الأدبية. إذ يتبين للدارس المتعمق أن بعض النصوص تحمل في طياتها سمات وخصائص تنتمي إلى تيارات أدبية لم تكن قد تبلورت بعد في زمن كتابتها.

في سياق المفارقة المثيرة للإبداع، يبرز السؤال المحوري: ما الذي يجعل نصوصًا أدبية حداثية وسابقة لعصرها، مهمّشة في الظل؛ وما هي العوامل الفاعلة والمؤثرة التي تحفتي بنص أدبي دون آخر في مجال الإنتاج الأدبي؟

إلى جانب المشكلات الفنية الداخلية التي قد تتعلق بالنص، هناك جوانب موضوعية تحيط بالكتابة الأدبية؛ لعل في مقدمتها قضيتين أساسيتين هما: القلق والنقد. وقد قدّم النقد مقاربات مختلفة حول جدلية التلقي والنقد، من خلالها يمكن فهم ظاهرة النصوص السابقة لعصرها.

1.1 بورديو والعقل الأدبي

سعى بيير بورديو (Bourdieu) من خلال دراساته وتحليلاته إلى إبراز البنى الخفية التي تحكم مختلف الحقول الاجتماعية، ويضمها مجال الأدب من خلال نظرية "الحقل الأدبي" (le champ littéraire)؛ وهو تسمية تقنية تتعلق بالفضاء الاجتماعي الذي يحكم إنتاج الأدب وتوزيعه واستهلاكه. تكشف عن القوى المهيمنة والآليات الاجتماعية المعقدة التي تتحكم كلها في الإنتاج والاستهلاك الأدبي. يرى بورديو أن "الأعمال الأدبية ليست، في منظور علم الاجتماع الثقافي، ظواهر اجتماعية فريدة وخارجة في إدراك العالم وتمثّله، ولا تتطلب مقاربتها بدعوى تعالٍ واستقلالها الذاتي؛ تخصصها بنوع متميز من القراءة؛ وإنما هي نتاجات عادية لا تكتب في فراغ أو فضاء؛ لكن تحكمها بنية من علاقات القوة والهيمنة والاعتبارات والمصالح داخل العقل الأدبي، وصراعات متجذرة ضمن البنية من العلاقات، بحيث يسمح للنصوص المهمّشة بالانتقال إلى الهامش أو المركز، ليس بسبب اكتشاف قيمتها الكامنة؛ بل بفعل تحوّل في "سيرورة العقل الأدبي" وصراعاته الداخلية. عبارة أخرى، وكما هو الحال في الفضاء الاجتماعي، كذلك يشير بورديو إلى أن تاريخ الحقل الأدبي يصنعه الصراع بين المهيمنين والمهيمن عليهم، والعقل الأدبي تحكمه سلطات وقوى مهيمنة وذائقة سائدة. ويشمل الواقع المهيمن أدباء مكرّسين، يكافحون في سبيل الاستمرار من خلال الارتباط بأسلوب أو نوع أدبي وذائقة معينة. أما المهمش عليهم فهم الذين يحاولون الدخول إلى دائرة الضوء، وطرد كل الذين لهم مصلحة في تخليد الحاضر إلى دائرة الماضي.

2.1 جمالية التلقي عند ياوس وإيزر

كذلك يمكننا قراءة ظاهرة "الحداثة المؤجَّلة" في ضوء طروحات هانس روبيرت ياوس (Jauss) وولفغانغ إيزر (Iser) حول نظرية جمالية التلقي، والتي تمثل الركيزة الأساسية لتفسير فاعلية القراءة وتلقي الظاهرة الأدبية. تنطلق نظرية التلقي عند ياوس من مبدأ أساسي: أن التاريخ الأدبي هو تاريخ للتلقي وليس لسيرورة المؤلفين. فالأعمال الأدبية في حد ذاتها، لا تكتسب قيمتها إلا من خلال أفق التوقعات الذي يحدده القارئ. وليس من قبيل المصادفة أن ياوس قد حدّد، على الدوام، أهمية التركيز على مفهوم "أفق التوقعات" (Horizon of Expectations) في الأعمال الأدبية. إذ تشكّل آفاق التوقعات لدى القراء، والنقاد، وفق معايير عصرهم، مقاييس لتفسير النصوص الأدبية.

ويشمل المعايير الجمالية السائدة والأنواع الأدبية المقبولة، والتقنيات الفنية المألوفة، والقيم الثقافية والاجتماعية المهيمنة. وعندما تظهر النصوص المتجاوزة لعصرها والتي تحتوي على بنى وتقنيات تكسر أفق توقعات القراء المعاصرين لها، فإن هذا الكسر يؤدي إلى رفض النقاد والقراء المعاصرين للنص، وتهميش العمل، واعتباره سابقًا لأوانه. يحدث التهميش عندما يفشل النص في تلبية أفق التوقعات السائد في عصره. بينما يتحقق الاعتراف اللاحق به عندما يتطور تاريخ التلقي ليصبح قادرًا على استيعاب النص.

يقدم ياوس مفهوم "إعادة بناء الأفق" (Horizon Reconstruction) لتفسير هذا الاعتراف اللاحق، حيث يتوسع أفق التوقعات من خلال تراكم أعمال مشابهة تدريجيًا، وتطور الحساسية النقدية، وتغير السياق الثقافي والاجتماعي، وظهور أجيال جديدة من القراء.

أما إيزر، ففَسَّر نظريته في قراءة ظاهرة "الحداثة المؤجَّلة" من خلال مفهوم تعدّد إمكانيات المعنى؛ حيث يرى أن "النص الأدبي" يحتوي على احتمالات معنى متعددة لا تتحقق في لحظة تاريخية واحدة. فالنصوص المهمشة تحمل إمكانيات معنى لم تُكتشف بعد، وتنتظر شروطًا تاريخية مناسبة للتحقق. وكل عصر يحقق جانبًا من إمكانيات النص المغمورة، بينما العصور اللاحقة تكتشف طبقات معنوية جديدة كانت مغيبة. ويتحقق هذا التفسير من خلال مفهوم "الفجوات" (blanks/gaps) عند إيزر؛ حيث تحتوي النصوص المبكرة على فجوات أكبر من قادرة عصرها على ملئها. فيصبح القراء المعاصرون في معاناة العجز عن تفعيلها، بينما تطور الحساسية القرائية اللاحقة أدوات تأويلية جديدة، وتصبح قادرة على ملء الفجوات التي عجز عنها السابقون.

وبذلك، تكشف نظرات ياوس وإيزر أن تهميش النصوص والاعتراف اللاحق بها ليس مسألة قيمة مطلقة؛ بل نتيجة التفاعل الديناميكي بين النص وآفاق التوقعات التاريخي، وتطور تاريخ التلقي وقدرته على استيعاب النص الجديدة، وتحقيق إمكانيات المعنى الكامنة في النص تدريجيًا.

اضغط لتكملة المقال

علامات الصفحة:  لا يوجد