الحداثة وما بعد الحداثة

لا شكّ أن مصطلحي الحداثة (Modernism)، وما بعد الحداثة، من المسائل المعاصرة التي نالت حظها من الدراسات الأدبية المعاصرة، سواء كانت استشراقية (J. Hambermas, A. Gidden, A. Touraine) أو شرقية (جابر عصفور، محمد محفوظ، محمد أركون، ناصيف نصار). بمناهج مختلفة، فلسفيًّا، أدبيًّا واجتماعيًّا، لكون هذا الموضوع له علاقة وطيدة بحياة الإنسان بسبب التقدم التكنولوجي، من الجانب الفردي الخاص، والمجتمعي العام. نشر في الجانب التاريخي، أنّ الغرب في القرون الوسطى عاش فترة من الركود الطويل ما أدى به إلى التفكير برؤية جديدة بواسطة إعادة الوعي الجمعي؛ كخلاص من هذه الأزمة الإنسانية، فكانت الحداثة هي الرغبة في سبيل التغيير والإبداع. وقد بدأت الإرهاصات الأولى مع نهاية القرن التاسع عشر. بينما بدأت الحداثة طريقها في الشرق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، في ظل عالمين مختلفين، عالم يتسم بالهيمنة المطلقة، وعالم يخضع لاهتمام متناقضات عالية، من مختلف المجتمعات العربية، وما يبرهن شؤونهم ورعايتهم. ولذا ظهرت صراعات الحضارتين الشرقية والغربية.

تسعى للسيطرة والتمدّد، والنهائية تستهلك المستجدات الغربية. وفي هذا الصدد يبادر لأذهاننا السؤال: إلى أي مدى نجحت الثقافة العربية في جعلها غير تَبَعية، لتكون حضارة شاملة تتسم بالكونية.

لقد ارتبط مفهوم الحداثة بداية بالتجديد والتحديث. ككتابات معرض للتقليد، والاهتمام بمركزية العقل. وإن كانت مذهبية أو منحى معيّنًا في التفكير النقدي أو الفلسفي، وحتى الأيديولوجي، لكن يمكن القول بأنها نهج في الفكر يصبو نحو التغيير. كان ذلك لإعادة صياغة حياة إنسانية نحو الأفضل، بل والنهوض بالمجتمع البشري عامة.

أما تعبير "ما بعد الحداثة" (Postmodernism) فقد جاء كنتيجة لتوجّه نقديّ للحداثة في السبعينيات من القرن الماضي، وكأنها فترة زمنية جديدة منوطة بالفكر الأيديولوجي لإعادة التطور والتقدم من جديد. لأن المجتمعات البشرية لم تنجح بإيجاد الحلول للإشكاليات والأزمات التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر. ورغم صعوبة تعريف هذا المصطلح قرأنا نحن أمام هيمنة ثقافية جديدة. لكن لم يكن ذلك بمعزل عن البعد التاريخي، وتطور الرأسمالية الغربية، اجتماعيًّا، اقتصاديًّا، سياسيًّا، وثقافيًّا.

يتوزّع الكتاب على قسمين: القسم الأول يتمحور حول مصطلح الحداثة وبناء العقل الإنساني. حيث يشير المؤلف إلى مدى المعوّض الذي يكشفه هذا المصطلح، على الصعيدين الغربي والشرقي. ثم يعرّف هذا التعبير على أنه مفهوم فلسفي يركّز للكشف عن ماهية الوجود وإشكاليات العصر. فكارل ماركس، وأميل دوركهايم وماكس فيبر، ومن أتى بعدهم نسق اجتماعي متكامل يقوم على أساس العقلانية؛ في ظل التغيرات التكنولوجية والمعرفة وتنامي الاتصالات. ويبدو المؤلف أن التعريفات العديدة بين المفكرين الغربيين والشرقيين (على سبيل المثال أزوالد شبنغلر، جابر عصفور). كحالة خروج من التقليد وحالة تجديد. كلّها تبيّن التوازن بين مصطلحي الحداثة والتحديث (Modernization, Modernity) باعتبار موقف عقلي صائب بمسألة التوصل إلى المعرفة. بينما الحداثة في صياغة استجلاب التقنيات الحديثة لتوظيفها في الحياة الاجتماعية عامة.

لكن مسألة التحديث تأخذ طابع المحاكاة لدى الشعوب العربية، ولذا يولد التعايش بين منظومتين متنافرين. فمن ناحية وجود مجتمع تقليدي؛ ومن ناحية أخرى مجتمع حداثي.

جانب آخر يجنح النظر في الكتاب: قضية الحداثة وتقدم الأمم ونهوضها. فالنهضة هي إشارة إلى التغيير والثورة على القيم التقليدية المنتشرة، تعني تغيير الوعي من تقليدي إلى وعي علمي. وما يميز الحداثة عن النهضة هو أنها سياسية نقدية. في الواقع العربي فإن الأعراف والتقاليد هي التي تمنح العرب من بناء حداثتهم وتكوين حضارتهم على حد استشهاد الكاتب اعتمادًا على ما ورد لدى حسن حنفي. في هذا المضمار على سبيل التمثيل.

أما مسألة الحداثة والعلم التي وردت في الكتاب، فيستشهد الكاتب بآراء من الفكر الغربي، لدى فلسفة التنوير، مثل كانت الفيلسوف الألماني، حيث استطاع من إنجازات حضارية، أن يرسم حدود الحداثة. أما السبيل في الخروج من الوصاية التاريخية، الحرية ومن ثم العقلانية.

من جانب آخر يشير الكتاب إلى أن الحداثة تعتمد على جانبين أساسيين هما: العقلانية والانفجار المعرفي. فالعقلانية هي رفض الخرافات والغيبيات، والفرق بين الشرق والغرب. وظهرت الفلسفات والاختراعات والاكتشافات المتنوعة التي شكّلت ثورة معرفية.

في موضوع آخر من الكتاب، يتناول المؤلف نقد الحداثة من منظور علم الاجتماع، فمع تطورها وضعت الإنسان في حالة أشبه بالعبودية للعقل والعقلانية؛ فهناك عن استلاب الذات من المقومات الإنسانية. وقد اعتمد المؤلف على آراء فلاسفة مثل جان جاك روسو، نيتشه، وفرويد.

أما القسم الثاني من الكتاب فيتناول فيه الكاتب مضامين ما بعد الحداثة (Postmodernism). ووفق تقدير بعض الباحثين فإن هذه المرحلة بدأت عام 1968 وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب، في مختلف عواصم العالم. والبعض يشير أنها بدأت مع سقوط جدار برلين (Mauerfall: بالألمانية) عام 1989 تعبيرًا عن سقوط المنظومة الاشتراكية. ورغم ما يكشف تعبير ما بعد الحداثة من غموض من حيث التعريف، لكن المفكر يورجن هابرماس ينكر في مقالته "الحداثة مشروع لم يكتمل"، والتي صدرت عام 1981 أي بعد عقدين من الزمن. يرى بعض المفكرين أن الابتعاد عن مفهوم مشبّع بتناقضات، وإلى حين بروز ملامح العصر الجديد الذي لم تتعدد ملامحه بعد. ويذكر المؤلف بأنه يرفض الشمولية في التفكير، بل يرفض سمات عصر الحداثة التي أُشير إليها من قبل، مثل العقل، الذات، العقلانية، المنطق والحقيقة.

فعلى سبيل المثال يدعو المؤلف بأنّ بسبب النزعة العقلانية، تشيّأ الإنسان وتحوّل إلى موضوع لهيمنة النزعة الحضارية، وتخلى عن الخصوصية التي تميّز بها الفرد. وبدأت النظرة إلى الإنسان بوصفه ذاتًا. لكن هذا لا يعني تجاهل مبادئ العقلانية، على أساس وجود التكامل بين الفرد وما يلعبه من دور اجتماعي. أما موضوع التكامل والشمولية، فقد وجّه النقد للحداثة بأنها تبرز مظاهر الانشطارات في مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي والفكري. لذا لجأت مرحلة ما بعد الحداثة، لتوحيد الاتجاهات والتيارات العلمية المتنافرة بشكل عقلاني.

وأمر آخر، يتناول المؤلف مسألة النظرية النقدية والحداثة، حيث اعترضت هذه النظرية على تحويل مسار العقلانية إلى أداة تكتسب وجودها لغايات لا تنتهي. وقد أعلنت النظرية النقدية أنّ الحضارة الغربية بُنيت حسب إستراتيجية سحق ميول الإنسان من خلال السيطرة على الذات والآخرين. بواسطة الفكر الرأسمالي والجوازني. وهذا الأمر منح مصداقية لنظرية فرانكفورت النقدية نسبيًّا. وقد استعرض المؤلف أهم النقاد في هذا المجال مثل هوركهايمر، أدورنو، هابرماس، ماركوز، دريدا وغيرهم.

وأجمل أن فترة ما بعد الحداثة، رغم ما تتنامى من الفوضى، هي بمثابة منظومة دينامية متحركة.

يختتم المؤلف الكتاب تحت عنوان "الحداثة حاجة عربية". حيث يشير إلى اعتقادات لدى الأوساط الثقافية بأن الحداثة هي بمثابة نقل الأفكار الغربية المتقدمة للدول العربية. والمؤلف لا يتفق مع هذا التوجه. بل يبني معتمدًا على الباحث محمد محفوظ. يصف الحداثة العربية، لكون الحداثة صورة تاريخية، يُبطل الفكر العربي من الأوهام والخرافات والغيبية. والفرق بين الشرق والغرب فجوة معرفية.

انطلق من مساحة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، بينما الأول فلا زال الاتجاه في محور الحداثة التنويري أي فكرة التقدم فقط.

ويطرح السؤال: إلى أي مدى يمكن اعتبار الحداثة العربية حداثة عمياء؟ أترك ذلك للقارئ.

وبما أن الحداثة وما بعد الحداثية العربية هنا لتبقى، فإن التحسين الإنساني سيتطلب عملًا إستراتيجيًا ضمن التجميع ما بعد الحداثي، أعني استجوابًا نقديًّا للحاضر، في ضوء مستقبل أفضل غير تيولوجي، أي كمستقبل غير مفروض، واستخدام الإمكانات التحرّرية التي يوفّرها الماضي.

لكن في النهاية لا بدّ من الإشارة، أنّ ثمّة إشكاليات واجهت الحداثة العربية، على الصعيد السياسي، الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي، فالمجتمعات العربية ما زالت بين الانتماء للتراث من جهة، والتحديث من جهة أخرى. وهي تعاني من غياب مشروع نهضوي متكامل، أعني أن التجارب الجديدة في جميع العقول، وإن كنت لست مبالغًا، هي مستعارة وغير ناتجة عن السياق المحلي، ناهيكم عن الاستبداد السياسي، والتبعية للغرب. بل وتقليد الحداثة الغربية بسياقاتها المختلفة، والتي تختلف عن السياقات العربية، فضلًا عن الفجوة المعرفية بين الشرق والغرب، وتمزّق الهويات، والعديد من الجوانب الأخرى.

قائمة المراجع

مراجع باللغة العربية:

  • وطع، علي (2001). "مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة"، فكر ونقد، نوفمبر 2001، ص 96.

  • صفدي، مطاع (2011). نقد العقل الغربي، الحداثة وما بعد الحداثة؛ بيروت: مركز الإنماء القومي.

  • برادة، محمد (1984). "اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة"، مجلة فصول، عدد 3.

  • اليبسي، غيث (1997). من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن؛ دمشق: دار الكتاب العربي.

  • سبيل، محمد (2015). الحداثة وما بعد الحداثة، المغرب: دار توبقال.

  • الشبكي، محمد (2006). هايدغر وسؤال الحداثة، المغرب: إفريقيا الشرق.

  • لوبوان، جان فرانسوا (1994). الوضع ما بعد الحداثي؛ ترجمة: أحمد حسن، مصر: دار شرقيات للنشر والتوزيع.

  • لشخب، سمية (2014). "الأدب التفاعلي وفلسفات ما بعد الحداثة قراءة في المرجعيات"، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، عدد 14.

  • مهدي، ع. م. (2018). "مدرسة فرانكفورت النقدية: الأسس والمنطلقات الفكرية"، مجلة العلوم السياسية، بغداد، عدد 55.

  • محفوظ، محمد (2017). الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، الدار البيضاء.

  • عسيري، أحلام حسن (2022). "الحداثة الغربية من النفي إلى ما بعد الحداثة وما بعد الحداثة ومداها في الفكر العربي المعاصر (دراسة تحليلية نقدية)"، مجلة كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر-دمنهور، عدد 24، ص 257-288.

مراجع باللغة الإنجليزية:

  • Wagner, Peter (2017). Modernity as Experience and Interpretation: A New Sociology of Modernity. Polity Press: London.

  • Dalacoura, K. (2004). "Islam, Postmodernism and Other Futures: A Ziauddin Sardar Reader", Contemporary Political Theory, Volume 3, pp. 344-345.

علامات الصفحة:  لا يوجد