الحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية في السردية التاريخية العربية

يعتبر الجدل حول أفكار الحداثة وما بعد الحداثة وتحليلاتها، وتحديد حدودهما، من أكثر المواضيع تشعبًا وصعوبة في كل ما يتعلق بتحديد الماهية والتعريف الدقيق ووضع الحدود الزمانية والمكانية الدقيقة.

في الخطوط العريضة، تُعرف فكرة الحداثة (Modernism)، بمفهومها التاريخي والحضاري، على أنها ثورة ضد المفاهيم والقيم الكلية التي كانت سائدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في مجالات الأدب، والفن، واللغة، والسرديات التاريخية. فهي رفض للتعميم وقبولية الأحكام القيمية العامة في قوالب ثابتة لا يمكن مناقشتها. وقد تمددت فكرة الحداثة مع الوقت لتشمل النظم الاجتماعية، والحياة اليومية، وعلاقة الناس مع البيئة التي يعيشونها، ومشاعرهم نحوها، وطرق التعبير عن ذلك ليس كما اعتقد صناع الأقدمون. ولكن وفق ما تقتضيه الظروف الناتجة عن الثورة الصناعية التي غيرت وقلبت الكثير من القيم والمعايير الأخلاقية والاجتماعية. وعليه أصبح الاعتقاد السائد هو القائل بأن القوالب القيمية القديمة، أصبحت غير مناسبة لحياة البشر، ويجب دراستها من جديد بعين ناقدة، والعمل على تغييرها وتحديد مفاهيمها بشكل يجعلها أكثر نجاعة وأكثر شمولًا وأكثر جمالًا. وهو أمر حتم على البشر تغيير وعيهم ونظمهم للأشياء ومنطلقات تفكيرهم. وقد كان في ذلك كله محاولة لاستحداث وبناء ثقافات جديدة مبنية على هذه الرؤية الحداثية الثورية.

وإذا أخذنا بالمبدأ القائل إنه ليس بوسع الجديد والحديث أن يبقى جديدًا وحديثًا، وليس بوسع الجميل أن يبقى جميلًا ومستساغًا، وهو حكم من الضروري أن يسري على مبدأ الحداثة الموصوف أعلاه، فقد نشأت حاجة لفكرة تتعدى الحديث الذي لم يعد حديثًا، وفق المعايير التي صاغها محتدوها. وقد اصطلح على تسمية هذه الفكرة على أنها فكرة "ما بعد الحداثة" (Postmodernism). وقد جرى تعريفها على أنها ثورة وتعقبٌ من مسلمات الفكر الحداثي. كانت بدايتها حول نظريات تقييم الفنون ووضعها في سياقاتها المناسبة ثم امتدت لتشمل مجالات وأصعدة ثقافية عديدة أخرى.

وبما أن هناك تداخلًا بين المكونين من حيث الفترة الزمنية والحدود الموضوعية، فهناك من يقسم القرن العشرين إلى قسمين: القسم الأول الذي سادت فيه أفكار الحداثة والقسم الثاني الذي سادت فيه أفكار ما بعد الحداثة. وهناك من يعتقد أن كليهما جزء من فترة أطول تعود بجذورها إلى القرن التاسع عشر. وينبع الاختلاف حول التقسيم الدقيق بين المكونين إلى وجود بذور فكر ما بعد الحداثة قبل ازدهار الفكر الحداثي في النصف الأول من القرن العشرين، وإلى وجود فكر حداثي ذي شأن في النصف الثاني من القرن العشرين حيث أزهرت أفكار ما بعد الحداثة.

التاريخ والسردية التاريخية في الفكر الحداثي:

يُفسَّر الوعي التاريخي للبشر على أنه مجموعة من العبر، والتجارب المكتسبة التي يُعَبَّر عنها من خلال قصّة أو حكاية، أو رواية تُسرد تُخرِج تفاعلها مع الطبيعة الكونية ومكوناتها ومع بعضهم البعض، في ظل ذلك التفاعل. وتشكل اللغة في مدلولاتها وإشاراتها المحور الأساسي في تلك المدركات المعبرة عن ذلك الوعي. وقد وصف بعض الباحثين هذا المحور من خلال معادلة الدال والمدلول، على اعتبار أن الدال هو اللغة، وأفكار ومضامين السردية هي المدلول. بسطحية الحال، تنعكس هذه العلاقة من فرد إلى فرد إذا كان الخطاب فرديًا، ومن جماعة إلى جماعة إذا كان كون السردية بسطحية جمعية. فإذا افترضنا أن العلاقة في الجانب المحسوس من الكلمة (Sensible)، فإن المدلول في الجانب المعنوي أو المضمون (Intelligible). وبذلك نرى أن علاقة الدال بالمدلول هي علاقة العقل بالواقع. وهذه العلاقة هي التي تشكل الوعي، والوعي بشقيه، الفردي والجمعي، يخضع لرؤية ذاتية تكون في البعد الفردي أقوى وأوضح، في حين تخضع في البعد الجمعي إلى بعض عمليات النقد والتنقيح والغربلة. ومع ذلك يبقى ذلك الوعي تصويرًا لما تعتقده المجموعة من ذاتها، ومع علاقاتها مع باقي المجموعات، ومع مجمل مكونات الكون والطبيعة.

التاريخ والسردية التاريخية في فكر ما بعد الحداثة:

تعتمد فكرة ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالسردية التاريخية على فكرة القطيعة التاريخية مع الفكر الحداثي، المعتمد على فكرة "السرديات الكبرى المهيمنة"، المؤسسة على فكر التنوير الغربي والذي لا يحتمل، من وجهة نظر القائلين عليها، النقد والتنقيح. وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا الفكر التفكيكي المعارض للحداثة في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وهو عقد شهد ظهور العديد من التيارات الفكرية التي شككت في أسس الحضارة الغربية، وبنيتها، ومركز التنوير الغربي. في هذا العقد، حلت في أوروبا مصائب وكوارث عديدة، وكذلك في أنحاء مختلفة من العالم. هذه الأمور مجتمعة قادت إلى زعزعة الثقة في القيم والمثل والأفكار التي دعا إليها عصر التنوير والحداثة والطعن في مصداقيتها؛ مثل حكم العقل، والحرية، والعدالة والمساواة. ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه منذ أوائل القرن العشرين، ظهرت بوادر وعلامات لأفكار فلسفية متشائمة فيما يتعلق بالتاريخ ومسيرته وسيرورته. وكانت أبرزها فلسفة الفيلسوف الألماني أوسفالد شبنجلر (1880-1936) التي تحدثت عن انحلال الفكر الغربي، المبني الذي سيقود لانحطاط الحضارة الغربية. في ثمانينات القرن العشرين ظهر في أمريكا تيارات فكرية قائمة على تفكيك السرديات الكبرى التي تأسست على فكر التنوير الأوروبي واعتمد على مدى سنين طويلة. وهذا كان من شأنه أن يقود إلى ظهور تيارات ونظريات وأفكار ما اصطلح على تسميته "ما بعد البنيوية"، أو "التيار التفكيكي". وقد قام أصحاب هذا التيار بتقديم نقد تفكيكي عميق وجذري، في كل ما يتعلق بمفاهيم الذات والوعي البشري، ومفاهيم التقدم والتأخر، والحرية والعبودية، وتفاعل العمليات التاريخية، وقامت بربطها بمفاهيمها وإسقاطاتها بالإفلاس والفشل. وقد جرى تسمية هذا التيار الفكري الجديد بمصطلح "Postmodernism" أي ما بعد الحداثة. وقد تعددت أهدافه ومصادمه على أنها كلها تقع ضمن الإطار العام لنقد الحداثة.


اضغط لتكملة المقال 

علامات الصفحة:  لا يوجد