ملخّص
تستعرض الدراسة بإيجاز مفهومي الخطاب والحِجاج، ثم تسعى إلى تطبيق أبرز مفاهيمهما المبنية على اللغة والموقف التواصلي والسياق. كذلك تعدّد سمات النص الحِجاجي وتحليلاته في النص موضوع الدراسة الذي يعتبر جزءًا من مسيرة تطور الشعر العربي الحديث. لا تركز الدراسة على الأساليب الأدبية والفنية لذاتها، كما يقوم الدرس الأدبي بذلك، وإنما تعتبر هذه الأساليب في دراسة الخطاب بكثرة تفضي إلى تيبان نوعه ومعالمه. تقترح دراسة النص الشعري، وهو قصيدة الشاعر محمود درويش (1941-2008) "أنا يوسف يا أبي"، أربعة محاور لقراءة الخطاب الحِجاجي فيه، وهي: القناع الضميري، تشكيل الزمن، لعبة الضمائر، واستراتيجيات التنامي. وقد ساهمت جميعها في خلق نص مترابط ومتناغم ذي قصدية معلنة، واستدلال وبرهنة ملائمة يتطلبها النص الحِجاجي.
الخطاب والحِجاج
يُعدّ الخطاب (Discourse) من بين مصطلحات ما بعد الحداثة باعتباره مظلة كبرى للتعبير الثقافي والحضاري، إلا أن مرونته المتمثلة في استعماله في كثير من السياقات، جعلته عصيًا على التحديد. فقد أصبح مصطلح "الخطاب" متداولًا، ويُستعمل على نحو عشوائي في النصوص والنقاشات العلمية، من دون أن يتم تعريفه غالبًا. إذ أصبح المفهوم ملتبسًا، فإما أنه لا يعني شيئًا تقريبًا، وإما أن يُستعمل بمعانٍ أكثر من أن تحصى، في سياقات مختلفة. تكمن خلف كلمة "خطاب" في حالات عديدة الفكرة العامة المتمثلة في اللغة "المُشكَّلة" (structured) بحسب أنماط مختلفة تخضع لها الأقوال البشرية عند المشاركة في مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة. ومن الأمثلة المألوفة على ذلك "الخطاب الديني" و"الخطاب السياسي". إن تحليل الخطاب هو تحليل لتلك الأنماط. ومن ناحية التعدد فإن مصطلح الخطاب يشبه مصطلح السياق (Context) من ناحية تعدد المجالات التي يُنسب إليها مثل السياق السياسي، السياق الاجتماعي، والسياق الاقتصادي. وقد عُدّ عمل مصطلح الخطاب بشكل ما من خلال البنية السيميائية للنص، ومضامينه من خلال الإيديولوجيا التي يُرشح عنه. وبين هذين القطبين تشكّلت دراسة الخطاب التي أعادت أصحابه النظر في الصلة القائمة بين الإيديولوجي واللغوي، وانتقدوا ما اتجهت إليه اتجاهات سابقة في دراسة الخطاب: اعتدّت أزعمها بالتشكّل اللساني للخطاب، فاختزنته في تحليل مكوناته اللغوية، وبلغت الغاية في إيلاء الإيديولوجيا مكانة كبيرة حتى قيل: ما هو خطاب، فيما هو إيديولوجي. أمّا من منطلقات الخطاب فإنها تحيل إلى العلاقة بين بنية الكلام واللغة، وبين اللغة والفكر، ثم إلى التمركز في وظيفة الخطاب التواصلية كلامًا أو كتابة. تتحدد الخطاب إما بالكلام المباشر بين الأفراد الذين يكونون في عملية التواصل طورًا مخاطِبين وطورًا آخر مخاطَبين. ما يطرح العلاقة بين المتكلم والمخاطَب [...] وما يطرح مسألة العلاقة بين اللغة والفكر، كما تركّز على وظيفته التواصلية بين الناس، وهم يتبادلون رسائلهم وأمورهم الخاصة والعامة ويتبادلون الرسائل، سواء اتخذت تلك الرسائل صيغة كلام أم كتابة. ما يطرح مسألة العلاقة بين اللغة والمجتمع.
ومن الباحثين من يحدد العلاقة بين الخطاب والملفوظ: إذ يرون أن الخطاب هو ما تكون من ملفوظ وموقف تواصلي، وأن الملفوظ يستلزم استعمالًا لغويًا عليه إجماع، أي قد تواضع عليه المستعملون للغة، وأن هذا الاستعمال يؤدي دلالة معينة.
يمكن الحديث عن الخطاب، ورؤى نص سواء كان هذا النص مكتوبًا أو شفاهيًا ضمن سياقه الخاص، إذ إن لكل خطاب شروطًا خاصة تجعله يساهم في بلورة الموقف التواصلي المبني عنه. وبكلمات أخرى: "الخطاب عبور منتظم لمعنى/مبنى عبر سياق النص الذي يمكنه من الانتقال من مكان إلى آخر، أو من مكان إلى آخر. على أن العناصر السياقية الأخرى التي تقدمها الإشارات الموازية للنصوص: أخبار النص، وتاريخ النص، وظروف التلقي، ومستويات التفاعل معه، تمثل المهاد الضروري لتحقق الوعي بالخطاب في صيغته".
الخطاب الحِجاجي
أما الحِجاج المقرون بالخطاب في قولنا "الخطاب الحِجاجي" فهو تحديد من تحديات الخطاب، وتقييد لهويته. فلا شك في أن الحِجاج موضوع مركزي في الثقافة الإنسانية بوجه عام، وفي الثقافة العربية بوجه خاص. ذلك أن دلالته تهدف إلى إقامة الحجة والتأثير في الآخر، بغية إقناعه والتأثير فيه، ما هو إلا رغبة مطردة في الوعي الإنساني. كذلك فإن دلالة الحِجاج دلالة لا لبس فيها، وهو على المستوى الإجرائي يستمد معناه وحدوده ووظائفه من مرجعية خطابية محددة، ومن خصوصية العقل التواصلي، ومن ثم يصبح بعدًا من أبعاد الخطاب الإنساني. من أهم أهدافه "التأثير في المتلقي (السامع أو القارئ) وجعله يتقاسم مع المخاطب اعتقاده واقتناعه الخاص".
هناك من الباحثين من يرى أن اللغة تحمل في طياتها وظيفة حِجاجية، سواء على المستوى التداولي أو المعجمي أو التركيبي، غير أن عملية التأثير والإقناع تستدعي تضافر مجموعة من العناصر التي تسهم في بناء هذه العملية التخاطبية التي تهدف إلى قصدية معينة، وتتجلّى هذه العناصر في المرسِل والرسالة والمرسَل إليه.
النص الحِجاجي
يُعتبر النص الحِجاجي نصًا مترابطًا متناغمًا، وُضع لإقناع المتلقي بفكرة ما، من خلال ميزات مختلفة من أهمها: القصد المعلن، ويقصد فيه إحداث أثر في المتلقي، والتناغم إذ يقوم على ترابط في جميع أقسامه، والاستدلال العقلي المبني على عناصر اللغة، ثم البرهنة المعتمدة على إيراد الأمثلة والحجج.
اضغط لتكملة المقال